فصل: تفسير الآيات (16- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (12- 15):

{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
الظرف هنا متعلق بقوله تعالى في الآية السابقة: {فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي أن الذي يقرض اللّه قرضا، فيضاعفه اللّه سبحانه وتعالى له، ويعطيه الأجر الكبير عليه- إنما يجد ذلك يوم القيامة، يوم ترى- أيها الرائي في ذلك اليوم- المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم.
والمراد بالنور- واللّه أعلم- هو الإيمان، وما يتبعه من الأعمال الصالحة، حيث يكون هذا الإيمان نورا هاديا لأصحابه إلى الجنة.. كما يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (9: يونس).
والنور الذي في أيمان المؤمنين والمؤمنات يومئذ، هو صحف أعمالهم التي يتناولونها بأيمانهم. فتكون أمارة من أمارات السلامة والنجاة، كما تكون نورا هاديا يتجه بهم إلى طريق الجنة.
وقوله تعالى: {بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
هو النداء الذي ينادى به المؤمنون والمؤمنات من الملائكة يوم القيامة، حيث يلقونهم مرحبين بهم، مسرعين إليهم بزفّ هذه البشرى المسعدة، مهنئين لهم بما ظفروا به من رحمة اللّه ورضوانه في هذا اليوم العظيم.
وقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ}.
هو وصف لموقف من تلك المواقف التي تجرى يوم القيامة بين أهل المحشر، من خصام، وملاحاة، وترام بالتّهم، وقذف بالشناعات.
وهنا موقف بين المنافقين والمنافقات، وبين المؤمنين والمؤمنات.
ذلك أنه حين يرى المنافقون والمنافقات أن المؤمنين والمؤمنات قد زايلوا موقف الحشر، وساحة القضاء، إلى دار الخلد والنعيم، يسعى بهم نورهم إلى دارهم تلك- حين يرى المنافقون والمنافقات ذلك، يركبهم الكرب، ويستبدّ بهم الفزع، بعد أن انطلق المؤمنون والمؤمنات من بينهم، وأخذوا طريقهم إلى الجنة.. وهنا يحاول المنافقون والمنافقات أن يتعلقوا بأذيالهم، وأن يلحقوا بهم. فينادونهم: {انظرونا} أي انتظرونا وأمهلونا قليلا {نقتبس من نوركم} أي نمشى على نوركم، ونتعرف على طريق السلامة بالجري على آثاركم.
وقوله تعالى: {قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} هو الجواب الذي يجاب به على ما سأل المنافقون والمنافقات بقولهم: {انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}.
وقد يكون هذا الجواب من المؤمنين والمؤمنات، وقد يكون من الملائكة.. ولهذا بنى الفعل للمجهول، ذلك لأن هذا الجواب هو الجواب الذي لا جواب غيره، وإن لم ينطق به أحد.. فهو جواب الحال، قبل أن يكون جواب المقال.. وهو ردع للمنافقين والمنافقات، وحبس لهم في أماكنهم التي هم فيها لا يبرحونها، حتى يقضى الحق فيهم قضاءه.
وقوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ}.
ضرب بينهم: أي أقيم، ورفع بين المنافقين والمنافقات، والمؤمنين والمؤمنات، هذا الحجاز، وهو سور أي حائط، له باب، هو الباب الذي دخل منه المؤمنون والمؤمنات إلى ساحة الرحمة والمغفرة، وقد أغلق بعد أن دخل المؤمنون والمؤمنات إلى رضوان اللّه، وبقي في الخارج المنافقون والمنافقات ينتظرون قضاء اللّه سبحانه وتعالى فيهم، وإنه لقضاء عدل، حيث ينال المنافقون والمنافقات جزاء ما كانوا يعملون.
ويلاحظ هنا في هذا الموقف، أن المؤمنين والمؤمنات، والمنافقين والمنافقات، كانوا في موقف الحساب والمساءلة، وأن المؤمنين والمؤمنات قد فصل في أمرهم، وبرئت ساحتهم، وسيقوا إلى الجنة زمرا، وأن المنافقين والمنافقات قد همّوا ليلحقوا بهم، فضرب بينهم بهذا السد، وهو سد يحول بين المنافقين والمنافقات وبين الخروج من مكانهم الذي هم فيه.. وفى التعبير عن إقامة هذا الحاجز أو هذا السور بين أهل الجنة وأهل النار- في الإشارة إلى هذا بالضرب، ما يدل على أن هذا السور قد أقيم مرة واحدة، في لحظة خاطفة، ولم بين لبنة لبنة، وجزءا جزءا.. وشبيه بهذا ما يقام من خيام، فإنه يسمّى في حال إقامته بالضرب.. كما يقول الشاعر:
إن السماحة والمروءة والندى ** في قبّة ضربت على ابن الحشرج

كما أن الضرب للشيء يستعمل لما يلزم ويدوم منه، كما في قوله تعالى {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [61: البقرة] أي لزمتهم الذلة والمسكنة لزوما دائما لا يزول.
أما الباب الذي لهذا السور، فهو معدّ لمن بقي من أهل السلامة في الموقف، ولم يدخل الجنة بعد، ولم يلحق بالذين سبقوا من المؤمنين، حيث أبطأ به عمله.. ولكنه مع هذا سائر على طريق النجاة.. فإذا بلغ أول هذا الطريق، دخل من هذا الباب، فوجد أرواح الرحمة، والرضوان.
وقوله تعالى: {باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ} إشارة إلى أن الذين يجوزون هذا السور من المؤمنين والمؤمنات، يجدون ريح الجنة، وراء هذا الباب القائم على السور، أما الذين ظلوا في موقف الحشر، خارج هذا السور، فإنه لا يطلع عليهم في موقفهم هذا إلا نذر الشر، والعذاب.
قوله تعالى: {يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}.
أي أن المنافقين والمنافقات، وقد وجدوا المؤمنين والمؤمنات، أخذوا طريقهم إلى الجنة، ولم يستجيبوا لندائهم أن: {انظرونا نقتبس من نوركم} حين رأوا ذلك عجبوا لهم، وجعلوا يسائلونهم: {ألم نكن معكم}؟ أي: ألم نكن نحسب من المؤمنين، بينكم؟ ألم تعاملونا معاملة أهل الإيمان؟
فلما ذا تتبرءون منا الآن، وتأخذون طريقا وحدكم، لا حساب لنا فيه معكم؟
ويأتيهم الجواب من المؤمنين: {بلى}!! أي لقد كنتم حقّا معنا، ولكن بألسنتكم- أيها المنافقون والمنافقات، لا بقلوبكم- كان إيمانكم، وبهذا دخلتم مدخل المؤمنين في الدنيا، بهذه الثياب الزائفة من النفاق، التي اتخذتموها زيّا لكم، لتدخلوا به في زمرة المؤمنين.. أما قلوبكم فهى على ما هي عليه من ضلال، وشرك، وكفر.. وأنتم هنا في هذا الموقف- موقف القيامة- إنما تحاسبون على ما في قلوبكم، وقد كشف اللّه سبحانه وتعالى ما بها من نفاق!! لقد كنتم معنا، وكنتم في حساب المؤمنين، لأننا لا نعلم ما في قلوبكم من نفاق وخداع.. ولكنكم كنتم في حقيقة الأمر، على غير سبيل المؤمنين.. فلقد {فتنتم أنفسكم}، وأوردتموها موارد الضلال، {وتربصتم} أي كنتم تتربصون بالمؤمنين، وتنتظرون ما يحلّ بهم من هزيمة وخذلان، فتنفضون أيديكم منهم، وتجدون لكم طريقا إلى عدوهم.
{وارتبتم} أي كنتم في ريبة وشك من دين اللّه، فلم تؤمنوا به عن صدق ويقين، {وغرتكم الأمانى} أي وظللتم في خداع أنفسكم بتلك الأمانى الباطلة، التي كنتم تمنونها بها {حتى جاء أمر اللّه} أي حتى جاءكم الموت، وأنتم في هذا الموقف من التربص والريبة والغرور.. {وغركم باللّه الغرور} أي أنكم كنتم في هذا كلّه منقادين للشيطان الذي دعاكم إليه، وزين لكم طريق الضلال، فاستجبتم له، وغررتم بخداعه وضلاله.
والغرور، هو الشيطان، لأن التغرير بالناس، هو وظيفته التي خلق لها.
قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
هو مما يردّ به على المنافقين والمنافقات، يوم القيامة، بعد أن سمعوا ما يسوؤهم، جوابا على قولهم للمؤمنين: {ألم نكن معكم}؟ إنهم لم يكونوا من المؤمنين، بل كانوا على نفاق خفىّ انكشف أمره يوم القيامة، ولهذا فهم يساقون إلى النار، مع الكافرين، لأنهم في الحقيقة كانوا كافرين، وإن حسبوا في ظاهر أمرهم من المؤمنين.
وإنه لن يقبل منهم فدية يفتدون بها أنفسهم من هذا العذاب.. تماما كما لا يقبل من الكافرين فدية.. إنهم على سواء في الكفر والضلال.
وقوله تعالى: {مَأْواكُمُ النَّارُ} تأكيد لقوله تعالى: {لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ}.
فالفدية إنما هي فدية من النار، وإذا لم تقبل الفدية فليس إلا النار.
وقوله تعالى: {هِيَ مَوْلاكُمْ}.
هى الولىّ الذي يضمكم إليه، وتقوم بينكم وبينه المودّة والتآخى.. إنه لابد لكم من ولىّ، وقد انقطعت بينكم وبين المؤمنين والمؤمنات حبال الولاء، وليس بعد ولاية المؤمنين إلا ولاية الكافرين.. والكافرين في النار، فخذوا مكانكم معهم فيها.

.تفسير الآيات (16- 20):

{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ}.
فهم جمهور المفسرين هذه الآية على أنها خطاب للمؤمنين جميعا، وأن اللّه سبحانه وتعالى وجه هذا العتاب التهديدى للمؤمنين، ولمّا يمض عليهم زمن وهم في صحبة هذا الدين الذي دانوا به، وبين يدى الرسول الكريم، وفى مشهد من آيات اللّه التي تتنزل عليه!! وهذا الاستفهام، فيه إنكار وتهديد، أكثر مما يحمل من إغراء وتحضيض!! والذي ينظر في الآية الكريمة، وفى سياقها مع ما سبقها من آيات، يجد أنها خطاب تهديدىّ لهؤلاء المنافقين الذين كانو يعيشون في مجتمع المؤمنين ويحسبون منهم.. وقد جاء هذا الخطاب التهديدى إليهم، بعد أن رأوا مصيرهم في الآخرة، وما انكشف من شركهم وكفرهم، وأنهم حين أرادوا أن يكونوا في زمرة المؤمنين، وبين جماعاتهم كما كانوا في الدنيا، وحين هتفوا بالمؤمنين {ألم نكن معكم}؟ حين فعلوا ذلك، تحت ثوب النفاق الذي لبسوه في الدنيا، قيل لهم: {بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ}.
وإنه إذ يلقاهم هذا الخطاب التهديدى، بعد أن رأوا- وهم في الدنيا-
أن نفاقهم سينكشف يوم القيامة، وأنهم سيحشرون مع الكافرين- إذ يلقاهم هذا التهديد، فإنه إنما يوقظهم من غفلتهم تلك عن أنفسهم، وعن خداعهم لها، وأنه قد آن لهم أن يكونوا في المؤمنين ظاهرا وباطنا، وإلّا فقد عرفوا أين يكون مكانهم يوم القيامة، إذا هم ظلوا قائمين في هذا الموقف الذي هم فيه، وأنه ليس لهم مأوى إلا النار.
فقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}.
هو دعوة مجدّدة إلى أولئك المؤمنين الذين في قلوبهم مرض، من المنافقين وأشباه المنافقين، الذين يعيشون بين المؤمنين، ويحسبون في جماعتهم، ويشهدون مشاهدهم في الحرب والسلم، كعبد اللّه بن أبىّ بن سلول، وغيره من الذين لم تطمئن بالإيمان قلوبهم، ولم تخشع لذكر اللّه وما نزل من آياته.
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}.
أي: ألم يحن الوقت الذي تخشع فيه لذكر اللّه، ولما نزل من الحق- قلوب هؤلاء المؤمنين الشاكّين المترددين؟ وماذا ينتظرون بعد هذا وقد عاشوا في الإسلام وقتا كافيا، اطّلعوا فيه على سيرة الرسول فيهم، واستمعوا إلى آيات اللّه التي يتلوها عليهم؟.
وفى تسميتهم مؤمنين، إغراء لهم بتصحيح إيمانهم، وبإخلاء قلوبهم من النفاق، وإخلاص نياتهم لهذا الدين الذي لبسوه ظاهرا، بأن يلبسوه باطنا.
إنه أسلوب من التربية الحكيمة العالية، التي ليس من همّها قتل المرضى، بل همّها الأول هو الطّبّ لدائهم، وتقديم الدواء الناجع لعللهم.
وقوله تعالى: {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} أي ألم يجيء الوقت الذي تخشع فيه قلوب هؤلاء المؤمنين المنحرفين، لذكر اللّه، وما نزل من الحق، وألا يكونوا كهؤلاء الذين أوتوا الكتاب من اليهود، الذين قست قلوبهم، فجفوا دينهم، وعبثوا بشريعتهم، وخرج كثير منهم جملة عن دينه وأحكام شريعته؟
وفى تشبيه هؤلاء المؤمنين المرتابين في دينهم بأهل الكتاب من اليهود- إشارة إلى ما كان بين هؤلاء المؤمنين المنافقين، وبين هؤلاء اليهود من اجتماع على الكيد للإسلام، والتربص بالمسلمين.. وفى هذا ما يكشف هؤلاء المرضى من المؤمنين، وأنّ من ينضوى منهم إلى هؤلاء اليهود، أو يلقاهم بالمودة، وهم على هذا الكيد للمؤمنين، فهو من المنافقين، وإلا كان عليه أن يعتزل مجالس هؤلاء اليهود، وأن يقطع حبال الود التي بينه وبينهم، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً} [11: الحشر] فهذا وجه بارز من وجوه النفاق، لا يجتمع مع الإيمان في قلب مؤمن أبدا.
وليس القيد الوارد على حال أهل الكتاب في قوله تعالى: {فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} ليس قيدا مشتركا بينهم وبين المنافقين وأشباه المنافقين من المؤمنين المخاطبين بهذه الآية، وإنما هو قيد خاص بأهل الكتاب الذين صاروا إلى تلك الحال من قسوة القلوب والفسوق عن دينهم، بعد أن تراخى الزمن بينهم وبين نبيهم الذي جاءهم بالشريعة التي يدينون بها، وبعد أن توارثوا هذا الداء، فقست قلوبهم، ولم تعد تقبل خيرا.
وقد جعل المفسرون هذا القيد: {فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} قيدا جامعا للمؤمنين وأهل الكتاب.. وهذا هو الذي جعلهم يجعلون قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} خطابا عامّا للمسلمين جميعا، يدخل فيه صحابة رسول اللّه، كما يدخل فيه من في قلوبهم مرض من المؤمنين، وهذا لا يتفق أبدا مع الحال التي كان عليها صحابة رسول اللّه، الذين أعطوا كل وجودهم للّه، ولرسول اللّه، ولدين للّه، وإنه ليس وراء ما أعطوا بقية من مشاعر الخشوع والولاء تعطى في هذا المقام! قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
هو خطاب لهؤلاء المؤمنين المنافقين الذين لم يملأ الإيمان قلوبهم خشية وجلالا وولاء للّه، ولرسوله، وللمؤمنين.. فهؤلاء إنما هم في شك من البعث وأن هذا الشك هو الذي أقامهم من الدين هذا المقام المنحرف، ولهذا كان من تمام دعوتهم إلى تصحيح إيمانهم، أن يكون إيمانهم بالبعث واقعا موقع اليقين من قلوبهم وعقولهم، وأنهم إذا كانوا في شك من هذا، فليعلموا أن أمر البعث لا يختلف عما يرونه بأعينهم من إلباس الأرض الميتة ثوب الحياة.. فاللّه سبحانه الذي يحيى الأرض بعد موتها، لا يعجزه أن يحيى الأجسام بعد موتها، فهذا من ذاك.. سواء بسواء.
وقوله تعالى {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} استدعاء لهؤلاء المخاطبين، المنحرفين، أن يستدعوا عقولهم- إن كانت لهم عقول- وليتدبروا موقفهم من البعث، بالنظر إلى ما تفعله قدرة اللّه سبحانه بالأرض الميتة! قوله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}.
هو دعوة مجدّدة أيضا إلى هؤلاء المؤمنين المنحرفين، أن ينفقوا في سبيل اللّه، بعد أن يصححوا إيمانهم، وأن يدخلوا دخولا كاملا في دين اللّه، وأن يصبحوا من المؤمنين الذين خاطبهم اللّه سبحانه في الآيات السابقة بقوله:
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}.
فليلحقوا بهؤلاء المؤمنين، الذين دعوا إلى الإنفاق في سبيل اللّه واستجابوا لما دعوا إليه.
إنهم إن فعلوا كان لهم ما لإخوانهم الذين سبقوهم من مضاعفة الجزاء، ومن الأجر الكريم، الذي أعدّ لهم.. وهذا هو السر- واللّه أعلم- في هذا التشابه الذي جاء عليه نظم الآيتين:
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}.
{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}.
والمصّدّق: أصله المتصدق، قلبت التاء صادا، وأدغمت الصاد في الصاد.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ}.
أي أنه إذا كان الإنفاق في سبيل اللّه مما يردّ إلى المنفق مضاعف القدر، كريم الأجر- إذا كان ذلك كذلك، فإن هذا الإنفاق لا يزكو، ولا يطيب، ولا يعطى هذا الأجر الكريم- إلا إذا كان عن إيمان وثيق باللّه، وبرسوله.
فالإيمان باللّه رسوله، إيمانا خالصا من كل شائبة، هو الذي يزكّى كل عمل يعمله المؤمن، قلّ هذا العمل أو كثر، وهو الذي يرفع العبد عند ربه إلى درجه الصديقين والشهداء.
والصدّيق، هو كثير الصدق، أي من كان مصدقا بكل ما نزل من آيات اللّه، وبكل ما سمع من رسول اللّه، لا يرتاب في شيء، ولا يتوقف عند شيء.. سواء عقله أو لم يعقله، وسواء وافق هواه أو خالفه.. فهذا هو الإيمان في صميمه.. إنه ولاء، وطاعة، وإسلام، واستسلام.. ومن هنا كان أبو بكر رضى اللّه عنه الصدّيق الأول، والصديق الأكبر، لأنه بعد أن آمن باللّه وبرسوله، جعل عقله وراء كل ما يعرض له من أمر اللّه ورسوله.. وفى حادث صلح الحديبية، شاهد لهذا، فقد كان الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، قد سار بالمسلمين عام الحديبية، على أن يدخل هو والمسلمون المسجد الحرام، وذلك لرؤيا رآها النبي الكريم، وأعلم المسلمين بها.. فلما وقفت قريش في وجه الرسول وأصحابه، وهم على مشارف مكة، وانتهى الأمر بينه وبين قريش إلى أن يعود النبي بأصحابه هذا العام، وألا يدخلوا على قريش مكة في عامهم هذا، على أن يعودوا حاجّين في العام القادم، بعد أن تخلى قريش مكة لهم- وإنه لما انتهى الأمر إلى هذا الموقف، اضطرب المسلمون، وكثرت تساؤلاتهم عن هذا الوعد الذي وعدهم النبي إياه من دخول المسجد الحرام- كان أبو بكر رضى اللّه عنه، هو الذي لم يقع في قلبه شيء من هذا الذي وقع في نفوس المسلمين، حتى إنه جاءه عمر متسائلا، قال له تلك القولة القاطعة الحازمة: الزم غرزه أي قف عند حدّك، ولا تراجع في أمر فعله النبي! وهذا ما جاء به قوله تعالى بعد ذلك، في القرآن المدنىّ: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [36: الأحزاب].
فمن آمن مثل هذا الإيمان أو قريبا منه، فهو من الصديقين.. فصحابة رسول اللّه، أبوبكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وطلحة، والزبير، وأبو عبيدة، وعبد الرحمن بن عوف، وكثير من وجوه الصحابة هم من الصديقين، وإن اختلفت منازلهم، في مقام الصدّيقيّة والشهداء: جمع شهيد وشاهد، وهم الذين آمنوا باللّه ورسله، فهم صديقون وهم شهداء عند ربهم، وتلك صفة أمة محمد صلوات اللّه وسلامه عليه، التي يشير إليها سبحانه وتعالى بقوله: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [143: البقرة] كما يصحّ أن يكون معنى الشهداء، هم الذين شهدوا بصدق الرسول، وأسلموا له، حين دعاهم إلى اللّه، وتلا عليهم آيات اللّه.
وهذا التأويل للشهداء، هو أولى عندنا من القول بأنهم هم الذين يقتلون في سبيل اللّه.. وذلك أن القرآن الكريم لم يغلّب إطلاق لفظ شهيد أو شهداء على الذين يقتلون في سبيل اللّه، بل غلّب على ذلك لفظ القتل. كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [74: النساء] وكما في قوله سبحانه: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [157 آل عمران].. وفى استعمال لفظ القتل في مقام الجهاد في سبيل اللّه، ما يكشف للمجاهد عن الموقف الذي يدعى إليه، وأن مما قد يكون في هذا الموقف، القتل، فليوطن نفسه على هذا، فإذا خرج على تلك النّية، كان قوة عاملة من قوى الحق، فلا يحجم عن الإقدام، ولا يفرّ عند اشتداد البأس، ولا يهاب القتل الذي أعدّ نفسه له.. وهذا خير مما لو صور له الموت في موقف القتال في صورة مجازيّة، يبدو فيها الموت في صورة غير صورته التي يلقاه الناس عليها، ثم إذا استقبله المجاهد في موقف القتال على حقيقته، أنكر ما عرف منه في تلك الصورة المجازية، والتمس لنفسه السبيل أو السبل التي تباعد بينه وبينه!! ومن جهة أخرى، فإن الذين يقتلون في سبيل اللّه، قد كان لهم في القرآن الكريم ذكر خاص بهم، يشير إلى مقامهم عند اللّه، وما أعد اللّه لهم من حياة طيبة في الدار الآخرة.. وفى هذا يقول سبحانه: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [170: آل عمران].. وعن هذا المعنى جاء الوصف لمن يقتلون في سبيل اللّه بأنهم شهداء.. إذ كان موتهم لم يقطع الحياة عنهم، فهم أحياء يرزقون عند ربهم، وهم في مقام عال يشهدون منه ما يجرى في العالم الدنيوي..!
وعلى هذا يكون قوله تعالى: {وَالشُّهَداءُ} معطوفا على الصديقين، أي: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أولئك هم الصديقون، وهم الشهداء عند ربهم وقوله تعالى: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} متعلق بالصديقين والشهداء، وقع موقع الحال.
وقوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} خيرثان عن الذين آمنوا باللّه ورسله.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ}.
هو وعيد لهؤلاء المنافقين المكذبين بآيات اللّه، فهم في زمرة الكافرين، وليس للكافرين من مصير إلا عذاب الجحيم.
الحياة الدنيا.. ما نأخذ منها وما ندع:
قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ}.
هو خطاب عام للناس جميعا، مؤمنهم، ومنافقهم، وكافرهم.. وفى هذا الخطاب كشف مبين عن حقيقة الحياة الدنيا، حتى يراها الناس في وضعها الصحيح، فلا يغتروا بظاهرها، ولا يفتنوا بما تبدى لهم من صور الفتنة والإغراء.
فإن أكثر ما يضل الناس عن طريق الحق، ويعمّى عليهم سبل الخير، هو افتتانهم بزخارف الدنيا، وانخداعهم بهذا السراب الذي تلوّح لهم به، في معرض الأمانىّ الخادعة، والآمال الكاذبة.
فالحياة الدنيا- في حقيقتها- {لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ} إن كل ما في هذه الحياة الدنيا، هو تافه قليل الغناء، إذا ووزن بما في الآخرة.
من نعيم، وعذاب.. فما ينعم به الذين يحسبون أو يحسبه غيرهم- أنه نعيم في الدنيا، هو لمعة من سراب، أو قطرة من محيط مما أعد اللّه سبحانه لعباده المكرمين، من نعيم خالد لا يزول، كامل، لا ينقص منه شيء.. وما يشقى به الذين يحسبون أو يحسبهم الناس أنهم أشقياء في الدنيا، هو نعيم، بالنسبة لعذاب الآخرة وأهوالها.
فكل ما في هذه الحياة الدنيا، من نعيم أو شقاء، هو بالنسبة لنعيم الآخرة وشقائها، لعب ولهو.. وإذ كان ذلك هو كل ما في الدنيا، فإن من شأن الراشدين العقلاء ألّا يقفوا طويلا عند هذا اللهو واللعب، بل إن عليهم أن يتجاوزوا هذا إلى ما وراء هذه الحياة، وأن يجعلوا من الدنيا معبرا إلى الحياة الآخرة، وأن يكون حظهم من دنياهم هو التزود ليوم القيامة، بالأعمال الطيبة بعد الإيمان باللّه واليوم الآخر وملائكته، وكتبه، ورسله.
وقوله تعالى: {وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {لَعِبٌ وَلَهْوٌ}: أي أن الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بين الناس وتكاثر في الأموال والأولاد.
وفى قوله تعالى: {زِينَةٌ} إشارة إلى أن الحياة الدنيا، وإن كانت العب واللهو، فإنها كذلك معرض من معارض الزينة، حيث يجد فيها الإنسان ما يتحلّى به ظاهرا وباطنا.. فيتحلى ظاهرا بالثياب الجميلة النظيفة، التي تبدو فيها صورته جميلة مقبولة، ويتحلى باطنا، بحلية الإيمان باللّه، وبما يدعو إليه هذا الإيمان من مكارم الأخلاق.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ} [26: الأعراف] فهذه هي الزينة التي تحمّل الإنسان ظاهرا وباطنا.
زينة الجسد، وزينة القلب والروح.
وفى قوله تعالى: {وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ} إشارة إلى ما يجرى بين الناس من تنافس في الاستكثار من متاع الحياة الدنيا، وزينتها من أموال وأولاد، لا لسدّ الحاجة، وإنما لإشباع رغبة التعالي والتفاخر، تلك الرغبة التي كلما ألقى إليها ما تشتهيه، اشتد جوعها، وازداد نهمها، فلا تشبع أبدا.
هذا، ويلاحظ أن الآية الكريمة جمعت بين خمسة أمور، من أمور الدنيا، هي موطن الفتنة بها، ومصدر الداء لكل من كان من صرعاها.
وهى اللعب، واللهو، والتزين، والتفاخر، والتكاثر في الأموال والأولاد.
ويلاحظ كذلك، أن هذه الأمور ليست على سواء فيما يصيب الناس منها من ضرر.
فاللعب، وهو شغل الجسد، والعقل، بما يلعب به اللاعبون- هو أكبر هذه الأمور ضررا، وأشدها بلاء على الإنسان، حيث يستهلك وجوده كله، حسّا، ومعنى، فيما لا طائل تحته.. إنه لعب كلعب الأطفال.
واللهو، وإن كان ضربا من اللعب، إلا أنه قد يكون في جانب من جانبى الإنسان، ظاهره، أو باطنه.. فهو بهذا في المرتبة الثانية من السوء والبلاء.
ثم تجيء الزينة، لتأخذ مكانا وسطا بين اللعب واللهو، وبين التفاخر والتكاثر.
فلو وقف المرء بالزينة عند الحد الذي لا يجاوز به المطلوب، من التجمل، إلى طلب التفاخر والتكاثر- لكان ذلك محمودا غير مذموم.
ومن هذا ندرك أن الدنيا ليست شيئا بغيضا ينفر منه الإنسان، ويفر من وجهه، إذا هو أراد النجاة والسلامة، وإنما هي مراد فسيح، ومجال متسع للسعى والعمل، ولابتغاء كثير من وجوه الخير والنفع منها، إذا عرف المرء كيف يسوس حياته فيها، ويقيمها على طلب الطيّب النافع منها، على أن يكون ذلك في قصد واعتدال، وبمعزل عن طلب التفاخر والتعالي، فإن من شأن التعالي والتفاخر أن يجور على حياة الإنسان نفسه، كما أن من شأن هذا أن يحمله على الجور على حقوق الناس، ابتغاء الوصول إلى الغاية التي يبلغ فيها حدّ التعالي الذي يملؤه فخرا وتيها.
فعرض الدنيا في هذا المعرض الذي جاءت به الآية الكريمة، ليس دعوة إلى الزهد في الدنيا، زهدا يقيم الإنسان فيها مقام الضائع المستكين، الذي لا يمسك في يده بشيء منها- كما فهم ذلك بعض الذين لا يعرفون حقيقة هذا الدين، ولا يدركون مراميه البعيدة، فانسحبوا من معركة الحياة، وأخلوا مكانهم من ميادينها العاملة، فكانوا أشبه بالمنافقين الذين اندسوا في جيش المجاهدين، فلما التحم القتال، أعطوا العدوّ ظهورهم، وولوا مدبرين.
إن الإسلام. إذ يعرض الدنيا في هذا العرض الذي يهوّن منها، ويخفف من موازينها، إنما يواجه بهذا العرض النفس البشرية، التي من طبيعتها الإقبال على الدنيا، والتكالب على شهواتها.. وتلك حال تحتاج إلى دعوة تكسر من حدة هذا التكالب وتقيمه على صراط مستقيم.
فالناس- كل الناس- ليسوا في حاجة أبدا إلى من يدعوهم إلى الإقبال على الدنيا، وإلى أخذ حظوظهم منها، إذ هم مقبلون بطبعهم عليها، مدعوون بحكم غريزتهم إلى الاندفاع في هذا الإقبال إلى مالا نهاية له.
وإنما الناس- كل الناس- محتاجون إلى من يمسك زمامهم ويروّض غرائزهم، في تعاملهم مع الدنيا، وفى تنافسهم المهلك على ما فيها من مال ومتاع.
فكل معرض يعرض فيه القرآن الكريم، الحياة الدنيا، مستخفّا بها، مهونا من شأنها، إنما هو دواء ملطف لهذا السّعار الذي يدفع الناس دفعا في غير وعى، إلى أن يلقوا بأنفسهم إلى مواطن التهلكة، دون أن يأخذوا حذرهم مما يلقاهم على هذا الطريق المحفوف بالمخاطر.
وقوله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً} هو تشبيه لحال الدنيا، وما يبدو للناس منها من مفاتن ومغريات، ينخدع بها من يلهيهم ظاهر الأمور عن حقائقها.
فالحياة الدنيا- في ظاهرها- أشبه بغيث وقع على الأرض، فبعث الحياة في مواتها، وأخرج منها زروعا ناضرة، وحدائق ذات بهجة، ثم لا تلبث هذه الزروع وتلك الجنات أن تهيج، وتبلغ غايتها، ثم لا تلبث كذلك أن تأخذ في الذبول والضمور، ثم نجفّ، وتصبح هشيما تذروه الرياح.
هذه هي الدنيا زرع، يملأ الأرض بهجة وجمالا، ثم إذا هذا الزرع النضر البهيج، قد زال عن وجه الأرض، وصار حطاما، وصارت الأرض خواء خلاء.
فمن أقام وجوده في هذه الدنيا على أنها زرع لا يذبل، ولا يجفّ، ولا يتحول عن حاله، فهو مخطئ، ومن أقام وجوده فيها، على أنها جدب وقفر، فهو مخطئ كذلك.. وإنما هي زرع وحصاد، وخصب وجدب، وحياة وموت!.
وفى قوله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ} إشارة إلى أن الناس هم غيث هذه الأرض، وأنهم هم الذين يعمرونها، ويلبسونها حللا من العمران.. ولكن هذا العمران مهما امتد وعظم فهو إلى خراب، وزوال!.
وقوله تعالى: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ} الكفار، جمع كافر، والكافر يطلق على الزارع، لأنه يكفر البذر في الأرض أي يغطيه، والكفر ستر الشيء، ووصف الليل بأنه كافر لأنه يخفى الأشياء بظلامه، وكفر النعمة، وكفرانها، سترها بترك أداه شكرها.. والكافر على إطلاقه: هو من يجحد الوحدانية، أو النبوة، أو الشريعة.
والمعنى يمكن أن يكون على أن المراد بالكفار الزراع، كما يمكن أن يكون على أن المراد به الذين لا يؤمنون باللّه، فهم الذين يعجبون بزهرة الحياة الدنيا، ويفتنون بها.
وقوله تعالى: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ}.
هو تعقيب على تلك الأوصاف التي وصفت بها الدنيا، من أنها لعب ولهو، وذلك بعرض ما يقابلها، وهو الآخرة، التي لا لعب فيها ولا لهو، بل كل أمرها جدّ في جدّ.. ففيها عذاب شديد، وفيها مغفرة من اللّه ورضوان.
وقدّم العذاب على المغفرة، لأن الآية في مواجهة الذين خدعوا بالحياة الدنيا وأذهبوا طيباتهم فيها.. ولهذا جاءت فاصلة الآية مؤكدة لما بدئت به: {وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ}.